
في الوقت الذي يتضور فيه أكثر من مليوني فلسطيني جوعا، ويتساقط الشهداء تحت أنقاض القصف، تتخذ القيادة الإسرائيلية قرارا بجر المنطقة نحو هاوية جديدة: احتلال كامل لقطاع غزة. قرار يكشف أن البحث عن الخلاص السياسي صار يمر عبر أبواب الحرب المفتوحة.
في لحظة حرجة تتقاطع فيها الحسابات العسكرية مع المآزق السياسية، يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي قرارا بالغ الخطورة: التوجه نحو احتلال كامل لقطاع غزة. قرار لم يأت من فراغ، بل في سياق يعكس تخبطا داخليا، واصطداما مكشوفا بين رأس السلطة السياسية وقيادة المؤسسة الأمنية.
القرار، الذي يتم تسويقه باعتباره خيارا استراتيجيا لإنهاء وجود حماس واستعادة الأسرى، يكشف عن حقيقة مرة: أن إسرائيل، بعد أكثر من تسعة أشهر من حربها على غزة، لم تحقق سوى المزيد من الدمار، والمزيد من الفشل السياسي والعسكري، الذي يدفع ثمنه الأبرياء في قطاع محاصر يعاني من المجاعة والانهيار الكامل.
“إذا لم يكن القرار ملائما لرئيس الأركان – فليستقل”، بهذه الكلمات نقل مقربون من رئيس الحكومة نبرة التحدي تجاه المؤسسة العسكرية التي تعارض اجتياح مناطق يعتقد بوجود أسرى فيها، خشية تعريضهم للموت.
المفاوضات، التي كانت قاب قوسين من تحقيق اختراق جزئي، انهارت فجأة. وبدا أن الرغبة في التصعيد تطغى على أي منطق سياسي أو إنساني. الحديث عن ضوء أخضر خارجي لتوسيع الحرب يعيد للأذهان مشاهد الحروب الاستباقية التي تستخدم كغطاء لتصفية الحسابات أو تأجيل الانهيار السياسي.
فمن المسؤول عن إفشال صفقة كادت تفضي إلى الإفراج عن رهائن؟ ومن يدفع ثمن انهيار مسار دبلوماسي كان بالإمكان أن ينقذ أرواحا؟
غزة تتضور.. والميدان ينفجر
في اليوم الخامس والأربعين من استئناف العدوان، سجل استشهاد 28 فلسطينيا منذ الفجر، بينما حذرت منظمة الصحة العالمية من أن القطاع يقترب من كارثة غذائية قاتلة. مدير الصحة في غزة تحدث بوضوح: الشروط الدولية لإعلان المجاعة متوفرة بالكامل.
“لن نستسلم”، قالها نتنياهو، لكن من الذي يطالب بالاستسلام؟ شعب محاصر، نصفه أطفال، أم مقاومة لم تهزم رغم كل ما واجهته؟
في المقابل، تتسع رقعة النيران داخل الأراضي المحتلة، وصولا إلى تخوم تل أبيب. آلاف الدونمات احترقت، آلاف العائلات تم إجلاؤها، والمحققون لا يستبعدون شبهة أمنية. كل شيء يشتعل، في غزة وتل أبيب، في الأرض والقرار السياسي، في القواعد العسكرية والغرف المغلقة.
وبينما تهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وتفتح جبهات جديدة، يقف الجيش – لأول مرة منذ بدء العدوان – في حالة مواجهة غير معلنة مع الحكومة التي يفترض أن توجهه.
احتلال غزة؟ مجازفة بلا مخرج
هل يمكن فعلا احتلال غزة؟ هذا هو السؤال الجوهري. قطاع خانق، مكتظ، مفخخ بالأزمات، ومثقل بالمرارة والتاريخ. قطاع لا يستسلم، ولا ينهار، ولا يدار بالحديد والنار. من قرر العودة إلى مربع الاحتلال لم يتعلم شيئا من دروس العقدين الماضيين.
“غزة ليست أرضا فقط، غزة فكرة… وأفكار المقاومة لا تهزم بالدبابات”، هكذا يصفها المراقبون ممن يعرفون طبيعة هذه الأرض.
قرار الاحتلال الكامل لن يستعيد الأسرى، ولن ينهي حماس، ولن يحقق نصرا. بل سيغرق المنطقة أكثر في الفوضى، ويعمق الهوة بين تل أبيب وعواصم العالم التي بدأت تظهر ضيقا من التمادي الإسرائيلي، رغم كل الغطاء السياسي والدبلوماسي.
كلمة أخيرة
كل حرب تندلع على أنقاض التفاوض، تترك جرحا أعمق من الحرب نفسها. والمقامرة السياسية بالدماء لا تصنع مجدا، بل تراكم الانهيار.
فهل يجرؤ أحد داخل إسرائيل على دق ناقوس الخطر، قبل أن تتحول غزة إلى ستالينغراد الشرق الأوسط، وقبل أن يكتب التاريخ: سقطت السياسة، فحل الجنون؟