
عندما ارتقت فاطمة الزهراء المنصوري إلى موقع الزعامة داخل حزب الأصالة والمعاصرة، بدا المشهد السياسي المغربي أمام خيار جذاب: قائدة شابة، بارعة في تنميق الكلام، وعُرفت عمليًا بعقلها الحديدي وظهورها الإعلامي اللافت. لكن مع مرور الوقت، بدأت تلك الصورة تتصدّع أمام تراكم السقطات والإشارات التحذيرية التي أثبتت افتقادها للرؤية، والتوازن، والصمود السياسي الحقيقي.
في عام 2009، دخلت المنصوري قاعة بلدية مراكش بوصفها أول امرأة تُنتخب عمدة للمدينة ضمن شواغل حزب مدعوم بقوة، ويُقال إن تدخّل جهات مؤثرة كان الفيصل في حسم المسألة. سرعان ما تحولت الانتخابات إلى شأن قضائي، إذ أُلغي انتخابها بقرار قضائي معتبرًا وجود تزوير في العملية الانتخابية، قبل أن يُرجعه الاستئناف لصالحها، وبدوره يُعزل القاضي الذي أبطَل العملية، في مسار أثار شكوكا حول استقلالية القضاء وتدخّل السياسة فيه. هكذا، بدت البداية أقل ما يُقال عنها أنها مشوبة بالتداخل بين السلط، والتمويه على أصالة مسار انتخابي.
ومع تقلّص حضورها الذهني للإبداع والتغيير، ظهرت مراكش، العاصمة الحمراء، عُرضة لانتقادات لاذعة. مدنيون وحقوقيون اتهموها بـ”الفشل”، بما في ذلك ملفات عالقة من عهدها السابق، وزُعِمت أنماط تسيير ضعيفة تتجلى في صفقات غامضة، سيارات فاخرة، تعويضات مبالغ فيها، انعدام للإنارة، شوارع غارقة في الفوضى وحفر متناثرة، وعجز عن استعادة المناطق الخضراء ومكافحة البناء العشوائي واحتلال الملك العام، حتى صار يبدو أن راحلة السياسة لا تقدم إلا شعارات إعلامية، حينما تحتاج المدينة لحلول جذرية.
لا تقلّ الأخطاء السياسية والحزبية في الأهمية عن الإخفاقات المحلية. بعد انتخابها منسقة وطنية مشتركة لحزب الأصالة والمعاصرة، بدأت تظهر علامات ضعف القيادة والتنظيم. العلاقات مع قيادات حزبية تصدّعت، وداخل الحزب تفجرت توترات، عندما اتُهمت المنصوري بالسعي نحو تعديل حكومي لصالح مصلحتها فقط، دون احترام آليات الانضباط الحزبي أو التداول الديمقراطي. لم تكن المسألة مجرد خلاف مؤسسي عادي، بل إشارة إلى تحكم منفرد، وتجاهل للضوابط الداخلية، ومراوحة في المنطق الذاتي للربح الفردي على حساب المصلحة المشتركة.
ويُقال في السياسة: “قل لي بمَن أنت محاط، أقل لك مَن أنت وأين يمكنك الوصول”. مع الأسف، تبدو المنصوري محاطة بدائرة ضيقة من الأسماء التي لا تملك وزنًا سياسيًا ولا كفاءة تنظيمية ولا حتى رصيدًا أخلاقيًا يُذكر. أشخاص همّهم الوحيد استغلال قربهم منها لتحقيق مصالح شخصية، وتسلق المناصب بسرعة قياسية، وكأنهم يدركون في قرارة أنفسهم أن وهجها لن يدوم طويلًا، وأن استثمار الفرصة الآن هو الطريق الوحيد لبلوغ طموحاتهم الفردية. هذا المحيط الهش لا يضعفها فقط، بل يكشف أن مشروعها السياسي فاقد للدعامات البشرية القوية القادرة على صناعة القرار أو صيانته.
ومن المواقف التي تعكس سلوكها التنظيمي، طريقة التجييش التي اعتمدت لطحن صلاح الدين أبو الغالي وإبعاده عن القيادة الثلاثية للحزب، بداعي تلقيها شكاية من بن الضو حول عملية تجارية بين الأخير وأبو الغالي لم تكتمل. هذا التصرف يبرز حجم الصراعات الداخلية، ويطرح علامات استفهام عن دوافع التصفية السياسية داخل الحزب. في ضوء هذه الاتهامات، كان من المنطقي والمنصف أن تنسحب هي الأخرى من قيادة الحزب، خصوصًا بعد تفجر فضيحة أراضي كيش مراكش، ومحاولة استيلاء زوجها الجديد على هيكتارات من أراضي الشرفاء ومنازل جماعية، ما زاد من تعقيد صورتها أمام الرأي العام وجعلها في موقف دفاعي مستمر.
من بين علامات ضعف حضورها السياسي، غيابها المتكرر عن جلسات البرلمان في مجلسيه، بداعي المرض أو أحيانًا بدون أسباب معلنة. الغياب طال كذلك اجتماعات المكتب السياسي للحزب، ودورات المجلس الوطني، وإن حضرت إحدى هذه اللقاءات، سرعان ما تختفي دون سابق إنذار أو اعتذار. هذا السلوك لا يعكس سوى افتقاد الجدية والمسؤولية المطلوبة لمن يتطلع إلى قيادة حكومة البلاد.
في المكاتب السياسية السابقة، كان منصب رئيسة المجلس الوطني مجرد واجهة، حيث كان طاقم من المناضلات والمناضلين يقومون بجميع المهام الحقيقية. كانت المنصوري تأتي فقط في الدورات لقراءة ما كتبه الطاقم أو ما يصطلح عليه “سكريتارية المجلس الوطني”، مختبئة وراء هالة من الدعم المهيأ لها من مريديها، مما يعزز صورة القائدة الغائبة عن الفعل الفعلي.
ومن بين اللقطات التي أظهرت هشاشة حضورها السياسي، تلك اللحظة التي جلست فيها أثناء جلسة البرلمان للرد على أسئلة النواب، مدعية أن ذلك كان بداعي “المرض” أو ما يمكن تفسيره بالراحة الجسدية، وردها على رئيس الجلسة بأن “أهم من هذا الصلاة، كنصلي جالسة”. هذه العبارة التي حملت سذاجة مفاجئة وقلة احترام لمقام المؤسسة التشريعية، لم تكن مجرد موقف طريف، بل تعبير واضح عن ضعف الانضباط المؤسسي، وعدم تقدير لآداب العمل البرلماني، مما أضعف مصداقيتها في موقع المسؤولية.
ليس هذا فحسب، فقد انتشر فيديو آخر يظهر فيه المنصوري وهي ترقص على إيقاع الدقة المراكشية، وهي لقطة تروّج لشخصية قد لا تتناسب مع الجدية المطلوبة لرئاسة الحكومة. فبينما يُفترض أن يكون رئيس الحكومة نموذجًا للتوازن والرصانة، جاءت هذه اللقطات لتعزز صورة المسؤول الذي يغلب عليه الطابع الشعبي واللامبالاة، بدلاً من التركيز على مهام الحكم المعقدة.
ثم جاء ملف الأراضي المثيرة للجدل، والذي بدا نموذجاً لأزمة الشفافية. تمسّكها بأن بيع الأراضي كانت إرثًا عائليًا فقط، نُظمت بآليات قانونية، وسيُحاسب من يروّج العكس عبر القضاء. يظل التوضيح منطقيًا، لكن السؤال يظل: لماذا وجد مكانه في التوضيح وليس في البداية؟ ولماذا لازم الشك قبض الإدارة أكثر من واجهته؟ في بلد يبحث عن شفافية الإدارة، يبقى الرد القضائي غير كافٍ لاستعادة الثقة، إن لم يُصمّم على أن تكون الإدارة نفسها في منأى عن شبهات النفوذ والصلة المتبادلة.
ويلتقط الإعلام الساخر بعض أخطائها اللسانية، فتصبح مادة تتداول بين منصات المعارضة والشعب، تُذّكر الناس بأن “دماغ المنصورية ساخن” على العموم، وأن التصريحات بلا تريّث أو حسابات تعرّضها للسخرية السياسية المبنية على زلة لسان مفاجئة. إذا كانت السياسة فنّ الكلام، فإنّ التسرّع اللفظي لا يُسقط نبرة القائد فقط، بل يقوّض صورته، ويحوّله إلى مادة تتناقدها الخصومات قبل أن يستعيد فيها نفسه.
على الجانب التواصلي، تعاني المنصوري من ضعف واضح في مستوى الخطاب السياسي، إذ تبدو نبرة صوتها محمولة على سلطة مصطنعة، وهالة من التعظيم مستمدة ادعاءً من جهات فاعلة تتحكم في توجهاتها بشكل حرفي، مما يعرقل قدرتها على التواصل الطبيعي والفعال مع الجمهور والخصوم السياسيين على حد سواء.
وإذا صح ما يروج أنها مريضة ولا تقوى على الوقوف داخل قبة البرلمان، ولا تستطيع مسايرة مهامها التنظيمية ومواكبة مؤسسة الحزب بالحضور والتفاعل الإيجابي، ولا تستطيع مواكبة مهامها الوزارية بداعي المرض، فكيف لها أن تنجح في رئاسة الحكومة التي تتطلب جهداً أكبر، وحضوراً أقوى، ونقاشاً دائماً، ومواكبة ميدانية؟
باختصار، لم تُحرز فاطمة الزهراء المنصوري ما يؤهلها لتولّي فخامة رئاسة الحكومة القادمة. فغيابها عن الفعل الميداني المتواصل، والتورّط في ملفات محلية معقدة، والصراعات الحزبية الداخلية، وعدم شفافية بعض الملفات، مع غياب الحضور الاستراتيجي والتخطيط، كلها عناصر تجعل منها عنوانًا لطموح لم يُبنى بعد على ركائز قيادة جماعية مستقرة، قبل أن تكون بطلة أي صف لانتخابات كبرى.
في النهاية، لا يمكن النظر إليها كممثلة يمكن أن تعيد للسلطة الروح الشعبية والمصداقية. تفتقر للحضور، للانضباط، للشفافية، كما أن صاحب أكبر منصب سياسي في البلاد يحتاج إلى من يمتلك خطابًا يفهم الناس، ويحلّ المشاكل، ويتحمل المسؤولية وليس من يغيب عنها، وتنزلق في التفاصيل، وتقيم نفسها فوق النقد قبل أن تهتم بأداء الواجب.
الكل كان يؤمن بها عندما كانت في الظل، أما عندما خرجت إلى ضوء الشمس انكشفت حقيقتها بسرعة البرق. وحتى أولئك الذين راهنوا عليها لتولي رئاسة الحكومة المقبلة، صاروا اليوم يدركون أنهم قد يرتكبون جريمة في حق الوطن والمواطنين إذا ما قدموها لهذا المنصب الرفيع، الذي يحتاج إلى قائد متمكن، مسؤول، وجاهز لتحمل أعباء الحكم بكل ما فيه من تعقيدات وتحديات.