افتتاحيةالرئيسية

المشاورات الانتخابية: إعادة إنتاج الفشل في عباءة التوافق

الرباط: عاجل24

أمام المشهد السياسي المغربي الراهن، تبدو دعوة الملك محمد السادس في خطاب عيد العرش إلى “اعتماد المنظومة المؤطرة للانتخابات التشريعية المقبلة قبل نهاية السنة” خطوة استباقية بالغة الأهمية. فقد أوكل جلالته إلى وزير الداخلية مهمة التنسيق مع جميع الفاعلين، بغية بلورة أرضية قانونية تضمن حسن تنظيم الاستحقاقات القادمة سنة 2026، على أساس توافقي ووطني جامع.

لكن ما يُستشعر في كواليس المشاورات الانتخابية الجارية، هو أننا بصدد تكرار نفس المسار، بنفس الأدوات، بل ونفس الأعطاب الهيكلية التي أضعفت التجربة الديمقراطية في محطات سابقة. الوجوه التي تدير النقاشات اليوم هي ذاتها التي أثبتت محدودية التأطير، وفشل التنظيم، وتَشرنُق القرار السياسي داخل حسابات شخصية أو جهوية أو فئوية ضيقة. الأحزاب نفسها التي تغيب عن هموم الشارع، وتحضر فقط في موسم المحاصصة والمكاسب.

ومن المفارقات القاتلة أن من يُكلَّف بصياغة الإطار القانوني الذي سيؤطر الحياة الديمقراطية للسنوات القادمة، هم في الغالب زعماء أحزاب لا يتقنون حتى الحديث عن أنظمتهم الأساسية والداخلية، ولا يحترمونها في ممارساتهم اليومية. بعضهم ينقلب على قوانين حزبه كلما تعارضت مع مصالحه، ويتصرف داخل التنظيم بعقلية فوقية تُقصي ولا تُشرك، تُعَيِّن ولا تنتخب، وتُدار بالهاتف لا بالمؤسسات. فكيف يُرجى من هؤلاء أن يكتبوا مدونة انتخابية تُعبر عن إرادة شعب ووطن، لا عن توازنات مكاتبهم السياسية؟ كيف لمن لم يُقنع قواعده، أن يُقنع شعبًا؟

علينا أن نُقِرّ بوضوح أننا لسنا اليوم أمام زعامات من طينة عبد الرحيم بوعبيد، أو محمد بوستة، أو عبد الرحمان اليوسفي، أو عبد الكريم غلاب، أو محمد العربي المساري… زعماء بصموا تاريخ المغرب السياسي برؤية، ونزاهة، وتضحية، وحضور فكري. الزعيم السياسي في تلك المرحلة كان مشرعًا حقيقيًا، واعيًا بوزن الوطن، ومُحصنًا بأخلاق المقاومة والاستقلال الوطني. أما اليوم، فإن الكثير من من يسمّون “زعماء” لا يُؤمَن جانبهم في أبسط عملية تنظيمية، بل تم اختزال السياسة عندهم في الحفاظ على المقاعد وتوزيع التزكيات وضمان ولاءات داخلية مفبركة.

إن المشكلة اليوم ليست فقط في مخرجات المشاورات الانتخابية، بل في مدخلاتها أيضًا: طريقة الاختيار، نوعية المتشاورين، الخلفيات التي يُبنى عليها النقاش، وغياب التقييم الصارم لتجارب القوانين الانتخابية السابقة. الخوف كل الخوف، أن تتحول العملية إلى مجرد تمرين شكلي، ينتهي بتفصيل مدونة انتخابية على مقاس دوائر الولاء، لا على مقاس الوطن.

وإن كان القلق مشروعًا من طبيعة الفاعلين الذين يقودون هذه المشاورات، فإن الأمل لا يزال معقودًا على تغيير المقاربة نفسها. لا يمكن لمستقبل الديمقراطية أن يُرهن فقط بأيدٍ حزبية ثبت فشلها في تأطير المجتمع، بل الأجدى أن تتوسع هذه المشاورات لتشمل مختلف مكونات الأمة: الجامعات بمراكزها البحثية وخبرائها القانونيين والدستوريين، منظمات المجتمع المدني التي تحتك يوميًا بواقع المواطنين، المثقفون والمفكرون الذين يمثلون ضمير البلاد النقدي، وحتى النقابات المهنية والهيئات غير الحزبية الفاعلة.

فالمدونة الانتخابية ليست مجرد نصوص تقنية، بل تعبير عن التوازنات المجتمعية الكبرى، عن الفهم الجماعي لكيف يجب أن يُدار الشأن العام، وعن الرؤية التي نريد بها أن نحكم أنفسنا في العقود المقبلة. ولا يمكن لتصوّر بهذه الأهمية أن يُترك بين أيدي زعامات مفبركة بمنطق “هاذ شي لي عطا الله”، أو بمنطق “سوق راسي” الذي تحكمه أنانية الحسابات القصيرة الأمد.

وما يزكّي هذا الطرح، أنه منذ الإعلان عن انطلاق المشاورات بين وزارة الداخلية والأحزاب، لم يبادر أي حزب سياسي إلى فتح مشاورات داخلية حقيقية مع قواعده التنظيمية، ولا مع نوابه الذين يتحدثون باسمه تحت قبة البرلمان، ولا مع منتخبيه في مجالس الجماعات والجهات والأقاليم، بل حتى المناضلات والمناضلين الحزبيين لم يُستشاروا، وكأن الأمر لا يعني أحدًا سوى القيادة. وهذا يعكس واقعًا مقلقًا: أحزاب تدّعي الديمقراطية في مؤسسات الدولة، بينما تُقصيها تمامًا داخل بيوتها.

ما نحتاجه هو حوار وطني مفتوح، شفاف، وواسع. حوار لا يُقصي، بل يُشرك. لا يُدار في الغرف المغلقة، بل في فضاءات النقاش العام. حوار ينصت للمواطن، لا فقط للزعيم الحزبي. لأننا ببساطة أمام لحظة مفصلية: إما أن نعيد إنتاج العجز، أو أن نكسر الدائرة ونفتح أفقًا جديدًا نحو ديمقراطية حقيقية قائمة على المشاركة لا المحاصصة.

القلق الأكبر هو أن هذه المنظومة الجديدة، إن وُضعت بنفس العقليات ونفس المنهجيات، فلن تُنتج إلا نفس نتائج العزوف، ونفس نِسب التصويت الضعيفة، ونفس التمثيلية السياسية المختلة. إذ لا تغيير دون جرأة، ولا إصلاح بدون مصداقية، ولا ديمقراطية بدون زعامات حقيقية تفكر بمنطق الوطن، لا بمنطق الربح السياسي السريع.

لقد أعطى الملك توجيهًا استراتيجيًا واضحًا، لكن الإرادة السياسية للنخب الحزبية تبدو منكمشة، إن لم نقل غائبة، عن التفاعل المسؤول مع هذه اللحظة التاريخية. وفي غياب زعامات حقيقية، وتحت وطأة تهاوي الثقة، فإن أي مدونة انتخابية جديدة ستكون مجرّد تعديل شكلي لنظام مأزوم، ما دام من يصوغه لا يؤمن حقًا بالديمقراطية كأفق وكممارسة يومية داخلية قبل أن تكون منافسة عامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى